ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] وقوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء : ٢٤] وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : ٤] الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس.
وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعا تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة. وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] وقوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد (بِالْباطِلِ) ونحوه.
والضمير المرفوع ب (تأكلوا) ، والضمير المضاف إليه أموال : راجعان إلىالَّذِينَ آمَنُوا) ، وظاهر أنّ المرء لا ينهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلا ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض. والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكن كون التجارة غير منهي عنه. وموقع المنقطع هنا بيّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمول الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيد الاستدراك حصرا ، ولذلك فهو مقتضى الحال. ويجوز أن يجعل قيد الباطل في حالة الاستثناء ملغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلا ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياما كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدّ أنواع أكل الأموال شبها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوضين عوضا عمّا بذله للآخر مساويا لقيمته في نظره يطيّب نفسه. وأمّا التجارة فلأجل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائدا على قيمة ما بذله للمشتري قد تشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء. وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولو لا تصدّي التجّار وجلبهم السلع لما وجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج. ويشير إلى هذا ما في «الموطأ» عن عمر بن الخطاب أنّه قال : في احتكار الطعام «ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده