بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشتقّا من الحرف وهو الكلمة والكتابة ، فيكون مرادا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتوافق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم ، ناظر إلى غالب أحوالهم ، فعلى الاحتمال الأول يكون استعمال (عَنْ) في قوله : (عَنْ مَواضِعِهِ) مجازا ، ولا مجاوزة ولا مواضع ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذ نقل وإزالة.
وقوله : (وَيَقُولُونَ) عطف على (يُحَرِّفُونَ) ذكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم ، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : يقولون سمعنا دعوتك وعصيناك ، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم ، ولذلك لم يروا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) إظهار للتأدب معه.
ومعنى (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أنّهم يقولون للرسول صلىاللهعليهوسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا ، ويعقّبون ذلك بقولهم : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم : غير مسمع ، أي غير مأمور بأن تسمع ، في معنى قول العرب : (افعل غير مأمور). وقيل معناه : غير مسمع مكروها ، فلعلّ العرب كانوا يقولون : أسمعه بمعنى سبّه. والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف. إطلاقا متعارفا ، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي ، أي أن لا يسمع صوتا من متكلّم. لأن يصير أصمّ ، أو أن لا يستجاب دعاؤه. والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) ـ إلى قوله : ـ (اسْمَعْ وَانْظُرْنا) فأزال لهم كلمة (غير مسمع). وقصدهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يرضوا الرسول والمؤمنين ويرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول ـ عليهالسلام ـ ويرضوا قومهم ، فلا يجدوا عليهم حجّة.
وقولهم : (وَراعِنا) أتوا بلفظ ظاهره طلب المراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل ، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفق بالمرعيّ ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه. وهم يريدون ب (راعِنا) كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العربية ، وقد روي أنّها كلمة راعونا وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها ، يوهمون أنّهم يعظّمون