حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يؤتوه.
وجيء بالصلتين في قوله : (بِما نَزَّلْنا) وقوله : «بما معكم» دون الاسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : (بِما نَزَّلْنا) من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : (لِما مَعَكُمْ) من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥].
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) تهديد أو وعيد ، ومعنى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ.
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار».
وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة. قال كعب :
عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه. ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها.
وقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمس والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرءوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة.
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي