وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة ، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى. وهنا مناسبة ، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحقّ ، والنعمة ، وهي أمانات معنويّة ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع.
وجملة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم». (وإنّ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء.
والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء ، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق.
والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها ، يقال : أدّى إليه كذا ، أي دفعه وسلّمه ، ومنه أداء الدّين. وتقدّم في قوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) في سورة آل عمران [٧٥]. وأصل أدّى أن يكون مضاعف أدى ـ بالتخفيف ـ بمعنى أوصل ، لكنّهم أهملوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف.
ويطلق الأداء مجازا على الاعتراف والوفاء بشيء. وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها ، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدون.
والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعإلىفَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) في سورة البقرة [٢٨٣]. وتطلق الأمانة مجازا على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدّها الخيانة في الإطلاقين. والأمر للوجوب.
والأمانات من صيغ العموم ، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء