فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشّية في البشر ، وأقيمت عليها ثروات كثيرة ، وكانت أسبابها متكاثرة : وهي الأسر في الحروب ، والتصيير في الديوان ، والتخطّف في الغارات ، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهم ، والرهائن في الخوف ، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر ، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال ، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين ، لأنّ العربي ما كان يتقي شيئا من عواقب الحروب مثل الأسر ، قال النابغة :
حذارا على أن لا تنال مقادتي |
|
ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا |
ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة ، ومنها مندوب إليها. ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا. وقد جعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة ، وقد جعل هذا التحرير بدلا من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل ، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه ، فلم يخل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف ، وقد نبهت الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة ، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة. وسنزيد هذا بيانا عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) في سورة المائدة [٢٠] ، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.
وثانيهما الدية. والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأ ، جبرا لمصيبة أهله فيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما ، كما سيأتي.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن. وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة ، فكانت عوضا عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها. قال الحماسي :
فلو أنّ حيّا يقبل المال فدية |
|
لسقنا لهم سيبا من المال مفعما |
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم |
|
رضى العار فاختاروا على اللبن الدّما |
وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. قال زهير :