وزهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم. وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين ، فيكلّفوهم مئونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأنّ في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظنّ بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع. فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لا يضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ. ويدلّ لهذا ما في «الصحيحين» ، عن زيد بن ثابت. أنّه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال : اكتب ، فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ، وخلف النبي ابن أمّ مكتوم فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. فابن أمّ مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله ، فإنّه من القاعدين ، ولأجل هذا الظنّ عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف : (غَيْرُ) ـ بنصب الراء ـ على الحال من (الْقاعِدُونَ) ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ـ بالرفع ـ على النعت ل (الْقاعِدُونَ).
وجاز في «غير» الرفع على النعت ، والنصب على الحال ، لأنّ (القاعدون) تعريفه للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى.
والضرر : المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زمانة ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه.