بإعطائه دون حرج ولا عسف ، فهو استعارة.
وقوله : (فَكُلُوهُ) استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به ، أي في معنى تمام التملّك. وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه ، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه. ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] فتلك محسّن الاستعارة.
و (هَنِيئاً مَرِيئاً) حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنا وهنئ ـ بفتح النون وكسرها ـ بمعنى ساغ ولم يعقب نغصا. والمريء من مرو الطعام ـ مثلث الراء ـ بمعنى هنيء ، فهو تأكيد يشبه الاتباع. وقيل : الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته. وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحا لاستعارة (فَكُلُوهُ) بمعنى خذوه أخذ ملك ، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم ، أي حلالا مباحا ، أو حلالا لا غرم فيه. وإنّما قال : (عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يعرى العقد عن الصداق ، فلا تسقطه كلّه إلّا ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض ، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذا بأصل العطايا ، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه ، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة ، وإلّا فإنّهم قالوا في مسائل البيع : إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج ، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصا للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع. فدخل التخصيص للآية. وقال جمهور الفقهاء : ذلك للثيّب والبكر ، تمسّكا بالعموم. وهو ضعيف في حمل الأدلّة بعضها على بعض.
واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعض صداقها : فقال الجمهور : لا رجوع لها ، وقال شريح ، وعبد الملك بن مروان : لها الرجوع ، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت. ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته «إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته ، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها» وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريبا ، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة.