نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلّا من كان على ديننا. فأنزل الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلىاللهعليهوسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكما فصلا بين الفرق ، وتعليما لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). ثم إنّ الله لوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النساء : ١٢٥]. والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم. وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلّا من كان منّا. وقال المشركون : لا نبعث.
والباء في قوله : (بِأَمانِيِّكُمْ) للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلا حصولا على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية.
والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعا. والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة. وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) في سورة البقرة [٧٨]. وكأنّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به. وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) على نحو : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة. وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) [البقرة : ١١١]. أمّا المسلمون فماحشون من اعتقاد مثل ذلك.