وجملة (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) حالية ، و (لو) فيها وصلية ، وقد مضى القول في تحقيق موقع (لو) الوصلية عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].
ويتعلّق (عَلى أَنْفُسِكُمْ) بكلّ من (قَوَّامِينَ) و (شُهَداءَ) ليشمل القضاء والشهادة.
والأنفس : جمع نفس ؛ وأصلها أن تطلق على الذات ، ويطلقها العرب أيضا على صميم القبيلة ، فيقولون : هو من بني فلان من أنفسهم.
فيجوز أن يكون (أَنْفُسِكُمْ) هنا بالمعنى المستعمل به غالبا ، أي : قوموا بالعدل على أنفسكم ، واشهدوا لله على أنفسكم ، أي قضاء غالبا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم ، لأنّ حرف (على) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى ، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد ، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى ، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته ، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّا ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه.
ويجوز أن يراد : ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم. وموقع المبالغة المستفادة من (لو) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه ، ويرون ذلك من إباء الضيم ، ويرون ذلك حقّا عليهم ، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعارا يقضي منه العجب. قال مرّة بن عداء الفقعسي :
رأيت مواليّ الآلى يخذلونني |
|
على حدثان الدهر إذ يتقلب |
ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية ، حتّى يقولون في الدعاء : (فذاك أبي وأمي) ، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم. فإن أبيت إلّا جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهدين فاجعل عطف «الوالدين والأقربين» بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلّا يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه ، فهو أمير نفسه فيه ، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثّم ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة ، كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨].