وقتا قليلا ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر (يَذْكُرُونَ) ، أي إلّا ذكرا قليلا في تلك الصلاة التي يراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسبيح الركوع ، وقراءة ركعات السرّ. ولك أن تجعل جملة (وَلا يَذْكُرُونَ) معطوفة على جملة (وَإِذا قامُوا) ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلّا حالا قليلا أو زمنا قليلا وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه.
ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) وهو حال من ضمير (يُراؤُنَ).
والمذبذب أسن مفعول من الذّبذبة. يقال : ذبذبه فتذبذب. والذبذبة : شدّة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذبّ إذا طرد ، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولملم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق. فقيل : إنّها مشتقّة من الدبّة ـ بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة ـ أي الطريقة بمعنى أنّه يسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق.
والإشارة بقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى ما استفيد من قوله : (يُراؤُنَ النَّاسَ) لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذبا ، إذ يجد في الناس أصنافا متباينة المقاصد والشهوات. ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر.
وجملة (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) صفة ل (مُذَبْذَبِينَ) لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ). و (هؤُلاءِ أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلّا فريقان فأيّها جعلته مشارا إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك ، ونظيره قوله تعالى «فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه».