ورخّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه ، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البطش باليد ، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به ، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ). وقد دلّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول ، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه ، أو شكاية ظلمه : أن يقول له : ظلمتني ، أو أنت ظالم ؛ وأن يقول للناس : إنّه ظالم. ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن ، وذلك مخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف ، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لحدّ القذف أو تعزيز الغيبة ، قائمة في الشريعة. فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه ؛ ومنه ما في الحديث «مطل الغنيّ ظلم» أي فللممطول أن يقول : فلان مماطل وظالم. وفي الحديث «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته».
وجملة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) عطف على (لا يُحِبُ) ، والمقصود أنّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها ، عليم بالمقاصد والأمور كلّها ، فذكر «عليما» بعد «سميعا» لقصد التعميم في العلم ، تحذيرا من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم.
وبعد أن نهى ورخّص ، ندب المرخّص لهم إلى العفو وقول الخير ، فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) ، فإبداء الخير إظهاره. وعطف عليه (أَوْ تُخْفُوهُ) لزيادة الترغيب أن لا يظنّوا أنّ الثواب على إبداء الخير خاصّة ، كقوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١]. والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة ، فهو أمر عدميّ.
وجملة (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) دليل جواب الشرط ، وهو علّة له ، وتقدير الجواب : يعف عنكم عند القدرة عليكم ، كما أنّكم فعلتم الخير جهرا وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقّكم ، لأنّ المأذون فيه شرعا يعتبر مقدورا للمأذون ، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمّن اقترف ذنبا ؛ فذكر (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) تكملة لما اقتضاه قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) استكمالا لموجبات العفو عن السيّئات ، كما أفصح عنه قوله صلىاللهعليهوسلم : وأتبع السيّئة الحسنة تمحها.