شَهِيداً (١٥٩))
عطف على جملة (وَما قَتَلُوهُ) [النساء : ١٥٧]. وهذا الكلام إخبار عنهم ، وليس أمرا لهم ، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية. و (إِنْ) نافية و (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) صفة لموصوف محذوف تقديره : أحد.
والضمير المجرور عائد لعيسى : أيّ ليومننّ بعيسى ، والضمير في (مَوْتِهِ) يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب ، أي قبل أن يموت الكتابيّ ، ويؤيّده قراءة أبي بن كعب (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى ؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل ، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلّا وهو يؤمن بنبوّته قبل موته ، أي ينكشف له ذلك عند الاحتضار قبل انزهاق روحه ، وهذه منّة منّ الله بها على عيسى ، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلّا وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم ، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّة تتبعه. وقيل : كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله.
وعندي أنّ ضمير (بِهِ) راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] ، ويعمّ قوله (أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود ، والنّصارى ، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب.
والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب ، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقا لما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم حيث كذّب أخبارهم فنفى الصلب عن عيسى ـ عليهالسلام ـ.
وقيل : الضمير في قوله (مَوْتِهِ) عائد إلى عيسى ، أي قبل موت عيسى ، ففرّع القائلون بهذا تفاريع : منها أنّ موته لا يقع إلّا آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت ، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلا وجعله قبل موته ، فلزم أن يكون موته مستقبلا ؛ ومنها ما ورد في الحديث : أنّ عيسى ـ عليهالسلام ـ ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب ، ولا يخفى أنّ عموم قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يبطل هذا التفسير : لأنّ الّذين يؤمنون به ـ على حسب هذا التأويل ـ هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم.
والشهيد : الشاهد ؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا ، وبأنّ النّصارى بدّلوا ،