أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرار بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة.
والمعاشرة مفاعلة من العشرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة. وأنا أراها مشتقّة من العشيرة أي الأهل ، فعاشره جعله من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخا. أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها. وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر.
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكرا لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نكرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروها ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس. والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف.
والتفريع في قوله : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) على لازم الأمر الذي في قوله : (وَعاشِرُوهُنَ) وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية. وجملة (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها. وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً) يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سبب خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق.
و (فَعَسى) هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي. (أَنْ تَكْرَهُوا) ساد مسدّ معموليها ، (وَيَجْعَلَ) معطوف على (تَكْرَهُوا) ، ومناط المقاربة والرجاء هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك.
وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي. وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيرا لكنّه لم يظهر للناس. قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين «اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمره لرددنا. والله ورسوله أعلم». وقد قال تعالى ، في سورة البقرة (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].