وقوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) سمّى المراضع أمّهات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة. ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات ، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله : (اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) دفعا لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى.
وقد أجملت هنا صفة الإرضاع ومدّته وعدده إيكالا للناس إلى متعارفهم. وملاك القول في ذلك : أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به ، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثر الأمّ في أصل حياة طفلها. فلا يعتبر الرضاع سببا في حرمة المرضع على رضيعها إلّا ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه ، ولذلك قال النبيصلىاللهعليهوسلم «إنّما الرضاعة من المجاعة».
وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وقد تقدّم في سورة البقرة [٢٣٣]. ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره ، بذلك قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وقال أبو حنيفة : المدّة حولان وستّة أشهر. وروى ابن عبد الحكم عن مالك : حولان وأيّام يسيرة. وروى ابن القاسم عنه : حولان وشهران. وروى عنه الوليد بن مسلم : والشهران والثلاثة. والأصحّ هو القول الأوّل ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبيصلىاللهعليهوسلم أمر سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجاب أرضعته ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلىاللهعليهوسلم لسهلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبين أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير. وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به.
وأمّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم ، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصّة واحدة عند أغلب الفقهاء ، وقد كان