وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعا لشأفتهم من بين المسلمين ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعلمهم ويعرّفهم لحذيفة بن اليمان ، وكان المسلمون يعرفون منهم من تكرّرت بوادر أحواله ، وفلتات مقاله. وإنّما كان النبي ممسكا عن قتلهم سدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعمر : «لا يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يبلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة ، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة ، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين ، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعته القبائل وتحقّقه المسلم والكافر ، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم ، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين ، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب ، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها ، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض ، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق. والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر ، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها ، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين ، وقد توفّي رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئة المسلمين لجهاد كلّ قوم ينقضون عرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون ، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته ، وما ذلك إلّا نفاق من قادتهم اتّبعه دهماؤهم ، ولعلّ هذه الآية كانت سببا في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصهم الإيمان كما ورد في قصّة الجلاس بن سويد. وكان قد كفى الله شرّ متولّي كبر النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بموته فكان كلّ ذلك كافيا عن إعمال الأمر بجهادهم في هذه الآية (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب : ٢٥].
وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالة بيّنة ، وإن لم يكن أعلن الكفر.
(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أمر بأن يكون غليظا معهم. والغلظة يأتي معناها عند قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) في هذه السورة [١٢٣].
وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّه جبل على الرحمة