وصيغة (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة ، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم ، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبيصلىاللهعليهوسلم إذا غزا.
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك ، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) إلخ.
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب. وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلىاللهعليهوسلم للغزو. وقال قتادة وجماعة : هذا الحكم خاص بخروج النبيصلىاللهعليهوسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو محكم غير منسوخ. وبذلك جزم ابن بطال من المالكية. قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد : كان هذا حكما عاما في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] فصار وجوب الجهاد على الكفاية. وقال ابن عطية : هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخروج. واختاره فخر الدين.
والتخلف : البقاء في المكان بعد الغير ممن كان معه فيه ، وقد تقدم عند قوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ٨١].
والرغبة تعدّى بحرف (في) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه ، وتعدى بحرف (عن) فتفيد معنى المجافاة للشيء ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٠] وهي هنا معداة ب (عن). أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول ، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه ملابسين لأنفسهم ، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قربا ، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه.
والباء في قوله : (بِأَنْفُسِهِمْ) للملابسة وهي في موضع الحال. نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة. وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبسا بها. وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز.