الأمن ، لأنّ المرء لا يستقر بمكان إلّا إذا كان آمنا ، فمن ثم سمّوا المؤمّن جارا ، والحليف جارا ، وصار فعل أجار بمعنى أمّن ، ولا يطلق بمعنى جعل شخصا جارا له. والمعنى : إن أحد من المشركين استأمنك فأمنه.
ولم يبيّن سبب الاستجارة ، لأنّ ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنّه لا يستجير أحد إلّا لغرض صحيح.
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعه القرآن ، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر ، لما هو معروف من شأن النبي صلىاللهعليهوسلم من الحرص على هدي الناس ، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فدلّت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازا ، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهمّ ، أو طلب الدخول في الإسلام ، أو عرض الإسلام عليه ، فإذا سمع كلام الله فقد تمّت أغراض إقامته لأنّ بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها ، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتّى يعيد إرشاده ، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.
وكلام الله : القرآن ، أضيف إلى اسم الجلالة لأنّه كلام أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك ، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد ، بخلاف الحديث القدسي.
ولذلك أعقبه بحرف المهلة (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه ، ولو بلغه بعد مدّة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتماما بإبلاغه مأمنه.
ومعنى (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أمهله ولا تهجه حتّى يبلغ مأمنه ، فلمّا كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سببا في بلوغه مأمنه ، جعل التأمين إبلاغا فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا يتضمّن أمر المسلمين بأن لا يتعرّضوا له بسوء حتّى يبلغ بلاده التي يأمن فيها. وليس المراد أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم يتكلّف ترحيله ويبعث من يبلغه ، فالمعنى : اتركه يبلغ مأمنه ، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه : «أبلعني ريقي» ، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلّمك ، قال الزمخشري : قلت لبعض أشياخي : «أبلعني ريقي ـ فقال ـ قد أبلعتك الرافدين» يعني دجلة والفرات.