سوء ما همّوا به ، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية ، فالوجه عندي : أنّ المعنيّ بالذين همّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين ، فنكثوا العهد سنة ثمان ، يوم فتح مكة ، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح ، والغدر بالنّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمسلمين ، وأن يأتوهم وهم غارون ، فيكونوا هم وقريش ألبا واحدا على المسلمين ، فيخرجون الرسولصلىاللهعليهوسلم والمسلمين من مكة ، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا ، وفضح دخيلتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وأمره بقتالهم ونبذ عهدهم في سنة تسع ، ولا ندري أقاتلهم النبي صلىاللهعليهوسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم (وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر) سببا في إسلامهم وتوبة الله عليهم ، تحقيقا للرجاء الذي في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) [التوبة : ١٢] ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد ، وأمدّوا قريشا بالعدد ، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم ، وأغضى النبي صلىاللهعليهوسلم عنهم ، فلم يؤاخذهم بغدرهم ، وبقي على مراعاة ذلك العهد ، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية ، وذلك قوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي كانوا البادئين بالنكث ، وذلك أنّ قريشا انتصروا لأحلافهم من كنانة ، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين.
و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) نصب على المصدرية. وإضافة (أَوَّلَ) إلى (مَرَّةٍ) من إضافة الصفة إلى الموصوف. والتقدير : مرة أولى والمرّة الوحدة من حدث يحدث ، فمعنى (بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدءوكم أوّل بدء بالنكث ، أي بدءا أول ؛ فالمرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما ، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام ، كما هنا ، وقد يفسّره اللفظ.
و (أَوَّلَ) اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير ، وإن كان موصوفه مؤنّثا لفظا ، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال : ثاني مرة وثالث مرّة.
والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه ، وأنّه لا تسامح فيه. وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام : إمّا إخراجه من مكة منهزما بعد أن دخلها ظافرا ، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح ، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام.
وجملة (أَتَخْشَوْنَهُمْ) بدل اشتمال من جملة (أَلا تُقاتِلُونَ) فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم ، فالتقدير : أينتفي قتالكم إيّاهم لخشيكم إياهم ، وهذا