أنّ الجهاد أثر الإيمان ، وهو ملازم للإيمان ، فلا يجوز للمؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام. وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان ، بل لجعلوها أعظم. وإنّما توهّموا أنهما عملان يعدلان الجهاد ، وفي الشغل بهما عذر للتخلّف عن الجهاد ، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين.
وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه ، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبّه به ، على أنّ العملين ومن عملهما لا يساويان العملين الآخرين ومن عملهما. فوقع احتباك في طرفي التشبيه ، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله ، وجعلتم سقاية الحاجّ وعمّار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله. ولما ذكرت التسوية في قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أسندت إلى ضمير العاملين ، دون الأعمال : لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات.
وجملة (لا يَسْتَوُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا : لبيان ما يسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله : (أَجَعَلْتُمْ) الآية.
وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل لجملة (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) إلخ ، وموقعه هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك ، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنزل قبلها ، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها ، فإنّه لم يبق يومئذ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد ، حتى يرد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه. وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.
فالوجه عندي في موقع جملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أنّ موقعها الاعتراض بين جملة (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) وجملة (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا) [التوبة : ٢٠] إلخ.
والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان ، إعلاما بأنّه دليل إلى الخيرات ، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد ، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا