بالالتصاق بالأرض ، والتمكّن من القعود ، فيأبى النهوض فضلا عن السير.
وقوله : (إِلَى الْأَرْضِ) كلام موجه بديع : لأنّ تباطؤهم عن الغزو ، وتطلّبهم العذر ، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم ، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم.
والاستفهام في (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) إنكاري توبيخي ، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.
و (مِنَ) في (مِنَ الْآخِرَةِ) للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلا عن الآخرة. ومثل ذلك لا يرضى به والمراد بالحياة الدنيا ، وبالآخرة : منافعهما ، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.
واختير فعل (رَضِيتُمْ) دون نحو آثرتم أو فضّلتم : مبالغة في الإنكار ، لأن فعل (رضي بكذا) يدلّ على انشراح النفس ، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار «فشرب حتّى رضيت».
والمتاع : اسم مصدر تمتّع ، فهو الالتذاذ والتنعّم ، كقوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٣٢] ووصفه ب (قَلِيلٌ) بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه.
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مرادا به الشيء المتمتّع به ، من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.
وحرف (فِي) من قوله : (فِي الْآخِرَةِ) دالّ على معنى المقايسة ، وقد جعلوا المقايسة من معاني (فِي) كما في «التسهيل» و «المغني» ، واستشهدوا بهذه الآية أخذا من «الكشاف» ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو «الكشّاف» ، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد [٢٦] (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ، وقوله صلىاللهعليهوسلم في حديث مسلم «ما الدنيا في الآخرة إلّا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع» وهو في التحقيق (من) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة ، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلّا عند ما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها ، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعمال حرف الظرفية ، وليس معنى موضوعا له حرف (في).