الحياة التي تحتاج إلى قوته ، (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) لتكون الفائدة مزدوجة في ما تتغذون به ، وفي ما تتغذى منه أنعامكم التي جعلها الله لكم غذاء ومركبا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) الذين يملكون العقول الراجحة ويستخدمونها وسيلة للتفكر في القضايا العقيدية المتصلة بخالق الكون والحياة ، التي يستدل عليها من دقة النظام ، وعظمة الخلق ، ووحدة القوانين الكونية.
وهذا هو الخط القرآني في مسألة العقيدة ، حيث يؤكد على المسألة العقلية في حياة الإنسان ، فهو يحث العقل على التفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة ، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينية ، لا الانفعال العاطفي. وبذلك تتلخّص المعادلة القرآنية ، في أن الإنسان كلما ازداد عقلا ، كلما انفتح على الإيمان من الباب الواسع ، وكلما ضعف إدراكه العقلي ، وزاد انفعاله ، كلما ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه ، خلافا للفكرة الشائعة التي يرددها الماديون ، وهي أن المجتمع المتخلّف هو الذي يلتزم الطريقة الدينية في الفكر والحياة ، بينما يلتزم المجتمع المتحضر المثقّف جانب الطريقة المادية. فإن القرآن يؤكد في أسلوب المعرفة على عنصر الوجدان الذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة ، وعلى عنصر العقل الذي يؤكد صفاء الفكر وعمق التأمّل في التفاصيل ، لأن القضية ليست قضية أي فكر ذي طابع ديني ، بل هي قضية الفكر الذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتفاصيل ، بالطريقة التي تبتعد عن السطحية والخرافة.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ) فمن تراب الأرض كانت البداية ، (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) وإلى تراب الأرض ستعودون بعد الموت ، (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) عند ما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث. وهكذا ترون أنكم جزء من هذه الأرض التي خلقها الله ونظمها وأدارها ، وأودع فيها قوانينه ، وأنكم خاضعون لكل قوانين الحياة والموت فيها. كما أنكم تتحركون في ذلك كله ، وفي ما بعد ذلك ،