وهكذا اقترب للناس حسابهم باقتراب الوصول إلى دار الحساب من دون تحديد لموعده ، هل هو بعد الموت مباشرة ، كما جاءت الروايات عن حساب القبر ، أو هو عند قيام القيامة ، عند ما يقوم الناس جميعا لرب العالمين ، لأن المسألة هي إثارة الحساب في وعيهم ووجدانهم ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فقد عاشوا الغفلة كأعمق ما يعيشها الإنسان الذي يبتعد فكره عن الحقيقة ، لأن هناك أكثر من حاجز يحجزه عنها ، فيدفعه إلى الإعراض عن كل دعوة للحق ، لأنه لا يعيش الوعي المنفتح عليه.
وقد أثار بعضهم التساؤل حول الجمع بين الغفلة التي توحي بعدم الانتباه ، وبين الإعراض الذي يستلزم الالتزام ، لأنه يمثل موقفا سلبيا اختياريا من الموضوع ، والجواب عن ذلك ، أن الإعراض يعبر عن حالة سلبية واقعية ، قد تلتقي بالوعي للموقف ، أو بالغفلة عنه ، وذلك لأنه يمثل الإهمال الفعلي لحركة المسؤولية في حياته من خلال موقف الحساب. والله العالم.
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فهم لا يعيشون الجدية في مواقفهم أمام المسؤولية ، بل يواجهونها من موقع اللهو واللعب ، كمن يلعب بمصيره غافلا عن النتائج السلبية التي يلاقيها. وهذا ما كانوا يمارسونه عند ما كان الأنبياء يأتونهم برسالات ربهم التي ترشدهم إلى الفلاح في الحياة ، وتثير في داخلهم الشعور بالسمو الروحي الذي يلتقون من خلاله بالله ، ويتضح لهم الكثير من المشاكل الواقعية التي تصادفهم في قضايا الفكر والحركة والشعور. فقد كانوا يستمعون إلى الأنبياء استماع اللاعب الذي لا يريد أن يشغل عقله بما يسمع ، أو يربي روحه به أو يعيش المعاناة من خلاله ، بل يريد أن يحرك حسه ، ويشغل فراغه ، فلا يكون همه مما يسمعه إلا الأصداء التي تنطلق من الكلمات ، بعيدا عن معانيها ، أو الأجواء الساخرة التي يحاول أن يثيرها في ما يتخذه من المواقف المضادة تجاهها.
* * *