وقد جعل الله السيدة العذراء مريم (ع) عنوان القصة ، لأن حركة الخلق انطلقت منها ومعها ، وحملت أكثر الملامح اتصالا بها ، من حيث المضمون والموقف ، ومن حيث الإيحاءات الروحية في مسألة تقديم النموذج الأمثل للمرأة من خلال الإنسانة المؤمنة التي يتحول ضعفها الأنثوي بفضل الإيمان والرعاية الإلهية إلى عنصر قوة وثبات.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) الفتاة العذراء الطاهرة التي عاشت أجواء خدمة الله في بيته ، فتعمق إحساسها الإيماني وطهارة فكرها وروحها وشعورها ، لما يتفايض من أجواء المعبد على كيان الإنسان المؤمن المتعبّد من طهارة ، وها هي تبرز في موقف جديد لم تختره بإرادتها ، ولكنها تحركت نحوه بطريقة تلقائيه لا شعورية ، (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) تماما كما تخرج أيّ فتاة لتخلو بنفسها لغرض التأمل أو العبادة أو ممارسة أيّ نشاط خاص بشكل طبيعي لم يثر انتباه أحد ، كما توحي أجواء الآية.
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) لتكتمل لها الخلوة بنفسها ، من خلال حاجز خلفه ، طبيعي أو صناعي أو صنعته بجهدها لهذا الغرض وأخذت تستسلم لأفكارها ، أو لأحلامها ، أو لأوضاعها الخاصة ، وكانت المفاجأة لها بالمرصاد ، وكانت المشكلة النفسية التي هزت كيانها بعنف ، (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) ومهمته حمل سر القدرة الإلهية على خلق هذا الإنسان الجديد (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) كأيّ بشر آخر ، في شكله وملامحه العميقة. وفوجئت وارتعدت ، وانتفض الطهر في روحها وفي أعماقها ، ليحمي نفسه ، ليستعين بشيء أيّ شيء ، وهرعت إلى الله تستعين به وتستنجده ، فهو الذي منحها هذا التمسك العميق بالحياة الطاهرة العفيفة التي تتمرّد على كل رجس ، وهو القادر على أن يحمي فيها هذا الطهر الذي اختارت بإرادتها أن تعيش كل حياتها في دائرته.
* * *