بالنسبة إلى هذا دون ذاك ، فالتجرّد مغاير للتعقّل.
الثالث : لو كان العلم هو التجرّد لاستحال اجتماع علمنا بكون الشيء مجرّدا عن المادّة وعلائقها ـ من الوضع وقبول الإشارات وغير ذلك ـ وجهلنا بكون الشيء عالما ؛ لامتناع صدق إيجاب الشيء على غيره وسلبه عنه ، لكن التالي باطل ، فإنّا قد نعلم كون الشيء مجرّدا عن المادة وعلائقها ونجهل كونه عالما بشيء البتة ونفتقر بعد ذلك إلى الاستدلال ، فلا يجوز أن يكون كون الشيء مجرّدا عبارة عن كونه عالما ، ولا داخلا فيه مقوما له ، بل بعد العلم بتجرّده نشكّ في كون ذلك المجرّد عالما ، ومن المستحيل أن تكون الحقيقة الواحدة معلومة مجهولة دفعة واحدة ، فثبت أنّ التعقّل والتجرّد متغايران.
الرابع : أنّنا نفرق بالضرورة بين حال تجدّد العلم لنا بشيء وبين حالنا قبله ونميز بينهما ؛ فإنّا قبل ذلك العلم ـ لنا ـ لا تكون لنا صفة العالمية ولا يحصل لنا باعتبار عدم هذا الوصف أمر وجودي ، بل لم تحصل زيادة على العدم إليه فوجب أن يكون الفرق إنّما هو حصول أمر لنا بعد العلم (١) لم يكن ثابتا قبله. ولا فرق في أنّا نجد أنفسنا عالمين بالشيء وفي أنّنا مريدين له ، فإنّ كلّ واحد منهما حاصل بعد أن لم يكن ، وإنّما نميّز بينهما وبين سائر الأحوال النفسانية (٢) المدركة لنا ، وأنّ لهذا العلم خصوصية وانفرادا عن غيرها ، وذلك لا يكون إلّا إذا كانت تلك الحالة أمرا ثبوتيا.
فقد ظهر أنّ التعقّل لا يجوز أن يكون أمرا عدميا ، ولا سلب المادة ولا غيرها. نعم قد يلزمه ذلك ، لكن أخذ لازم الشيء مكانه اغلوطة.
__________________
(١) ج : «العدم».
(٢) كالغضب والشهوة والإرادة والقدرة.