ولأنّا ننقل الكلام إلى ذلك المتوسط فإن كان لمتوسط آخر تسلسل ، ومعه يحصل المقصود ، لأنّ تلك الأشياء المتلاصقة لا بدّ وأن يكون فيها ما يكون ثبوته لما يلاصقه لذاته ، وإلّا لم يكن ملاصقا.
والحاصل أنّ اعتبار الواسطة في كلّ لزوم يرفع اللزوم والواسطة. فإذن يكون ثبوت المحمول لذلك الموضوع في الوجودين الخارجي والذهني أوليّا فتسمى مثل هذه القضية أوّليّة ، كما يحكم على كلّ ماهيتين مختلفتين بالمغايرة بينهما وأنّ إحداهما ليست هي الأخرى ، وكما إذا عقلنا الكلّ والجزء والأعظمية ، فإنّ مجرّد تصوراتها يقتضي جزم الذهن بالنسبة الثبوتية بينها فهذه القضايا تسمى أوّلية ؛ لأنّ ثبوت محمولاتها لموضوعاتها أوّل.
وأمّا ما يكون ثبوته لأجل متوسط ، فإنّ ثبوته لذلك الموضوع لا يكون أوّلا ، بل ثانيا ، لثبوت ذلك المتوسط وتاليا له. وكذا ما حكم العقل بثبوته للموضوع لأجل متوسط لم يكن حكم العقل لذلك الثبوت أوّلا بل ثانيا ؛ لحكمه بثبوت ذلك المتوسط لذلك الموضوع. وذلك المتوسط قد يكون هو البصر كالحكم بأنّ الشمس مضيئة ، أو اللمس كالحكم بأنّ النار حارّة ، أو السمع كالمتواترات (١) ، أو الوجدان كالوجدانيات (٢) ، أو النظر كالنظريات.
وأمّا ما يقال غير ذلك من أنّ الأوّلي ما يستحيل المنازعة فيه ، وأنّ الإنسان
__________________
(١) المتواترات : قضايا تسكن إليها النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل به الجزم القاطع ، وذلك بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كعلمنا بوجود البلدان النائية.
(٢) الوجدانيات : قسم من المشاهدات وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس الظاهري أو الباطني فالحكم بأنّ الشمس مضيئة ، أو النار حارّة ، حكم من العقل بواسطة الحسّ الظاهري. والحكم بانّ لنا ألما ، ولذّة ، وجوعا ، وعطشا حكم من العقل بواسطة الحس الباطني ، وهذا هو المسمّى بالوجدانيات في علم النفس. راجع الحاشية على تهذيب المنطق : ١١١ ؛ الجوهر النضيد : ٢٠٠.