هو العلم الأوّل ، لكنّ قيّد بقيد خاص. وكذا العلم بأنّ «الكلّ أعظم من الجزء» متفرع على العلم بأنّ زيادة الكلّ على الجزء إذا لم تكن معدومة فهي موجودة ؛ لامتناع ارتفاع الطرفين ، وإذ هي موجودة مع المزيد عليه فمجموعهما أعظم ، إذ لا يفهم من الأعظم إلّا ذلك. وكذا قولنا : «الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية» مبنيّة على تلك المقدمة ؛ لأنّ المساوية لشيء واحد طبيعتها كلّها تلك الطبيعة ، وإذا كانت طبيعتها واحدة استحال أن تكون طبائعها مختلفة ؛ لامتناع اجتماع النقيضين. وكذا قولنا : «الجسم الواحد لا يكون في مكانين» وإلّا لم يميز حاله عن حال الشخصين الحاصلين في مكانين ، فيكون وجود الثاني كعدمه فيجتمع فيه النقيضان. (١)
فالقضيتان الأوّليان رجعتا إلى قولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ، والأخريان رجعتا إلى أنّهما لا يرتفعان ، فهذه القضية هي أوّل الأوائل.
فالمنازع فيها لا يمكن أن يبرهن له عليها ، بل إن نازع لخفاء تصوّر أجزائها كشف له عنها. وإن نازع عنادا عرّفت بالضرب والإحراق ؛ ليفرق بين وجود الألم وعدمه. وإن نازع لتعادل الأدلّة المنتجة للنتائج المتناقضة أوضح له حلّ شكوكه.
فإن قالوا : لا نجزم بنفي هذه الحقائق بل نشكّ فيها ، لأنّ (٢) جزمنا بثبوت هذه الحقائق ، لأنّا نجد من أنفسنا الجزم بالألم واللذة والإحساس بالمحسوسات. ثمّ إنّا قد نجد من أنفسنا الجزم بأمثال هذه الأشياء ، مع أنّا نعلم في وقت آخر أنّ ذلك الجزم كان باطلا ، فلا جرم ارتفع أماننا عن شهادة الحس والبديهة.
وبيانه : أنّ الطريق إلى معرفة الأشياء : إمّا التخيل أو الحسّ أو العقل ، ولا شيء من الثلاثة بموثوق به.
__________________
(١) أي الوجود والعدم.
(٢) في عبارات الرازي : «لأنّا».