واعترض بمنع كون وجوده نفس حقيقته (١). سلمنا ذلك في حقه تعالى ، لكن العقول المفارقة ماهياتها غير وجوداتها بالاتفاق مع أنّها غير معقولة.
الثاني : لو سلمنا «أنّ كلّ مجرد يصحّ أن يكون معقولا» فلم قلتم : إنّه يصحّ أن يكون معقولا مع غيره؟ والاستقراء لا يفيد العلم ، فلعلّ من المجردات ما لا يصحّ أن يعقل شيء آخر مع تعقلها ، وكيف يحكم بامتناع ذلك من يكون ظاهر مذهبه أنّ العلم بالشيء والعلم بغيره لا يجتمعان؟! (٢)
أجاب أفضل المحققين : بأنّ تعقّل كل موجود يمتنع أن ينفك عن صحة الحكم عليه بالوجود والوحدة ، وما يجري مجراهما من الأمور العامة ، ولذلك حكم بعضهم بأنّ التصور لا يتعرّى عن تصديق ما ، والحكم بشيء على شيء يقتضي مقارنتهما في الذهن ، فإذن لا شيء يصح أن يعقل وحده إلّا ويصح أن يعقل مع غيره (٣).
الثالث : سلمنا «أنّ المجرد يصحّ أن يعقل مع غيره» ، لكن لا نسلم أن كل مجرد فانه يصحّ أن يعقل مع كل ما عداه ، حتى يفرّع عليه : أنّ كل مجرد فإنّه يصح أن يعقل كل الأشياء (٤).
أجاب أفضل المحققين : بأنّ المطلوب هنا هو إثبات العاقلية لكل ما يفرض مجردا ، ويكفي فيه صحة مقارنته لمعقول واحد ، وأمّا إثبات صحة تعقل كل الأشياء لكل مجرد فشيء لم يدعه الآن (٥) ، ولو قال بدل ذلك : إنّ كلّ مجرد فإنه يصحّ أن يكون معقولا لكل مجرد ، لكان أولى.
__________________
(١) انظر مذهب الرازي في هذا الموضوع في المباحث المشرقية ١ : ١٢٠ ـ ١٣٠. وقد عنونه ابن سينا هكذا : «انّ الأوّل لا ماهية له غير الإنيّة» ، الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء.
(٢) و (٣) شرح الاشارات ٢ : ٣٨٨.
(٤) نفس المصدر.
(٥) أي لم يدّعه ابن سينا هاهنا. نفس المصدر.