من اين يعلم أنّ أفضل سبيل لرفع حاجاته التي لا يستطيع القيام بها هو «البكاء» البكاء الذي يهز الأم في نومها ويقظتها ويفرض عليها معونته ، وكذلك العلوم والمعارف الأخرى التي يستفيد منها الإنسان في مراحل أخرى من دون الحاجة إلى معلم.
يوجد في آيات أخرى من القرآن ما يشبه هذا المعنى : نقرأ في قوله تعالى : (وَالَّذى قَدَّرَ فَهَدى). (الأعلى / ٣)
وفي الآية الثانية من الآيات المخصصة لبحثنا هذا وعند تذكير الإنسان بنعمه عليه ، يقول بعد الإشارة إلى نعم العين واللسان والشفاه : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
«نجد» : في اللغة بمعنى المكان المرتفع والفلاة ، وهي تقابل «التهامة» التي تطلق على الأراضي المنخفضة والواطئة والمساوية لمستوى سطح البحر وما شاكل ، وانطلاقاً من أنّ المعرفة بأُسس السعادة وطرقها وسلوك هذه الطريق يشبه إلى حدٍ ما سلوك الطرق المرتفعة بما فيها من مشاق ومشاكل كثيرة ، فقد استعملت مفردة «نجد» هنا بمعنى طريق الخير ، ثم جاء الاطلاع على طرق الشر إلى جانبها بعنوان «التغليب» ، وعليه يكون معنى الآية هو : «إنّا هدينا الإنسان إلى هذين المكانين المرتفعين» ، وهذان المكانان هما طرق الخير والشر.
لهذا نقرأ في حديث عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : «يا أيّها الناس! هما نجدان : نجد الخير ونجد الشر ، فما جُعِلَ نجد الشر أحبَّ إليكم من نجد الخير» (١).
يحصر البعض من ذوي النظر المحدود مفهوم الآية الواسع في داخل موضوع محدود ، ويقولون : إنّ المقصود من هذين المكانين المرتفعين هما ثديا الأُم! وقد ورد في الحديث أن الإمام علي عليهالسلام سُئِل عن معنى «وهديناه النجدين» وهل تعني ثديي الأم كما يدعي البعض.
إنّ الهداية الإلهيّة في هذا المجال تحصل طبعاً عن طرق مختلفة ، عن طريق الوجدان الأخلاقي ، الفطرة ، الدلائل العقلية ، وتعاليم الرسل (أي أنّها تشمل أنواع الهداية التكوينية والتشريعية) ، لكن سياق الآيات يناسب الهداية التكوينية أكثر.
* * *
__________________
(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨١ ؛ وتفسير مجمع البيان ؛ وتفسير القرطبي ، وقد روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادق عليهالسلام تعقيباً على الآيات المنظورة.