على أيّةِ حالٍ ، فلو لم يكن إدراكُ حُسْنِ وقُبحِ الأفعالِ فطرياً بالنسبة للإنسان ، أي لو كانت هناك حاجة للاستدلال من أجل فَهمِ قُبحِ الظلم وحُسنِ العدل والاحسان والأعمال الاخرى فمن المسلَّم إنّه سيختلُ نظام المجتمع البشري ، لأنَّ الكثير من الاختلافات العقائدية تنشأ عن الاستدلالات النظرية ، حيثُ لا يوجد أساسٌ وجدانيٌ متين لهذا المعنى ، فيمنحُ كلُّ شخصٍ لنفسهِ حريةَ القيام بأيِّ عمل.
أجَلْ إنَّ هذه الهدايةَ الالهيةَ في الحياة الاجتماعية للإنسان مصيريةٌ إلى أبعدِ الحدود ، وهذه النعمةُ وهذه الهدايةُ مهمّةٌ إلى الحدِّ الذي لا يمكن قياسُها بسائر النِّعم الاخرى.
* * *
وفي الآية الرابعةِ طُرحت مسألةُ فطرية الدين ، وهو «الدين الحنيف» أي الخالي من كل أشكال الهوى والاتجاه نحو الباطل والانحراف ، والطاهر من كافة أشكال الشرك والتلوث : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفَاً فِطْرَتَ اللهِ الَتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
والاستفادة من تعبير (الدِّين) نظراً لسعة مفهومهِ ، حيث يشمل جميعَ اصول الدين ، والحد الأدنى من مجموع فروع الدين ، بأنّه ليس معرفة الله والتوحيد فقط ، وإنّما اصول وفروع الدين كافة اودعَتْ منذ البداية في روحِ الإنسان بنحوٍ اجماليٍّ وبصورةٍ فطريةٍ ، وهذه هي «الهدايةُ التكوينية» التي يُمكنُ أن تُوجِدَ أكثر الآثار جاذبية لدى الإنسان فيما لو تناغمت مع «الهداية التشريعية» للأنبياء عليهمالسلام.
بناءً على ذلك فانَّ أصلَ كلِّ دعوةٍ موجودةٍ في الشريعةِ له وجود في أعماق فطرةِ الإنسان ، ولا يعارضُ أيُّ دينٍ الإرادات الفطرية للإنسان ، بل يرشدُها وَيكْملها من خلال الطريق المشروع ، ولهذا فانَّ التعبُّدَ والتَّدَيُنَ موجودان داخل روحِ الإنسان بصفتهما هدايةً تكوينية ، وإذا ما حصلَ انحرافٌ ما فانَّهُ طارىءٌ ، لهذا فانَّ دور الأنبياء عليهمالسلام هو ازالةُ هذه الانحرافات الطارئة كي تحصلَ إمكانية تَفَتُح الفطرةِ الحقيقية.
وهنا نكتفي بهذا المقدار حيث سنتكلَّمُ مفصلاً بخصوص هذه الآية في بحث التوحيد الفطري في المجلَّد الثالث إن شاء الله.