بل حتى بناء خليةٍ واحدةٍ من خلايا هذه الأعضاء بكل ما فيها من التعقيد والابهام والأسرار والأنظمة يمكن أن يكون من آيات الله تعالى ، بناءً على ذلك فانَّ (خلق السماء والأرض الذي هو أكبرُ وأعظم من خلق الإنسان أوضحُ برهانٍ على عظمة الله تعالى) (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
ومن المؤكد أنّ خلق الإنسان إذا ما قيسَ مع كل جزء من أجزاء هذا العالم فانه يُرجح عليه ، إلّاأنَّه إذا قيس بكل السماوات الواسعة والأرض ، فمن المسلَّم به أنّ السماوات والأرض يرجح خلقُها على خلق الإنسان.
والظريف أنّ القرآن الكريم حينما جاء بهذا التصريح لم يكن للناس حينذاك ـ ولا سيما المتخلّفين في الحجاز ـ معرفة بعظمة السماوات ، ولعلهم كانوا يظنّون أنّ السماء سقفٌ أزرق اللون قريبٌ منهم ، وقد تمّ تثبيته بواسطة مسامير فضية وهي النجوم!
أجَلْ ... إنّنا اليوم ندرك جيداً المفهوم العميق لهذه الآية ، لأنَّ العلماء تفحّصوا هذه السماء الواسعة من خلال المراصد الفلكية العملاقة ، وقد زودونا بأسرار وعجائب مذهلة عن عظمتها والنظام السائد فيها ، ومن أين ندري أنّ ما يشاهدونه اليوم لا يبلغ معشار عظمة هذا العالم ، ولعل هذه الحقيقة تتضح غداً للملأ ، لهذا يقول تعالى في آخر الآية : (وَلكِنَّ اكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ) (١).
وفي الآية التاسعة تمَّ جمع دورةٍ كاملةٍ من دروس التوحيد ومعرفة الله في استفهامٍ إنكاريٍّ حيث يقول : «(أَفِى اللهِ شَكٌ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأَرْضِ).
والجدير بالاهتمام هنا أنّ كلمة (فاطر) تعني المشَقِق ، وجاء استخدام هذا التعبير إمّا بسبب تمزيق حجاب العدم والظلمة أثناء خلق السماوات والأرض وإشراق نور الوجود في
__________________
(١) ما معنى «لا يعلمون» هنا؟ هناك احتمالات مختلفة : أولها هو : أنّ الناس يجهلون عظمتها قياساً مع الإنسان ، والآخر أنّهم يجهلون القدرة الإلهيّة اللامتناهية ، والثالث ، أنّهم يجهلون قدرته على مسألة المعاد ، أو يعلمون ، وحيث إنّهم لا يفصحون عن علمهم هذا ، فهم في حكم الجهلاء (ولكن لا يُستبعد أن تجتمع كل المعاني الثلاثة الاولى في الآية وكما قالوا بأنّ حذف المتعلق دليل على العموم).