فالرياح شأنها شأن الرعاة ذوي الخبرة والتجربة حين يقومون بجمع قطيع الماشية في وقتٍ محدَّدٍ من أطراف الصحراء ويسوقونها في طريقٍ معينٍ ، ثم يحضّرونها للحلب.
فلا سُمكُ الغيوم يكون بحد بحيث يمنع خروج قطرات المطر ، ولا شدّة الرياح بالقدر الذي تمنع نزول هذه القطرات إلى الأرض. ولا تكون قطرات الأمطار صغيرة بالقَدْرِ الذي يجعلها تبقى معلقةً في السماء ، ولا كبيرة حيث تؤدّي إلى تدمير المزارع والبيوت ، ولا يقتصر نزول المطر على بشارة الناس بالإعمار والازدهار فقط ، بل إنَّه يُصَفّي ويُلطِّفُ الجو ويبعثُ على النشاط.
والملفت للنظر أنّ الآيات التي تلي هذه الآية من سورة الروم تُذكِّر بالرحمة الإلهيّة في إحياء الأرض بعد موتها : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا). (الروم / ٥٠)
ومن أجل إدراك مفهوم هذه الآية يكفينا مشاهدة صورٍ من بعض الصحارى ، والمزارع في بعض المناطق في أفريقيا كيف خيَّم عليها شبحُ الموت أثر الجفاف المستمر ، ورحلت عنها ملائكة الرحمة والحياة.
وفي المقابل فإنّ هذه الأمواج اللطيفة للرياح التي تَخترقها قطراتُ الأمطار بسهولةٍ ، تقوم أحياناً باقتلاع الأشجار الضخمة ، وتُدمِّرُ المبَاني ، وتختطفُ الإنسان معها إلى السماء ثم تقذفه إلى مكانٍ آخر إذا ما أمرت بذلك.
* * *
وتتعقبُ الآية الثانية هذا الموضوع أيضاً بشيءٍ من الاختلاف ، فهي تصفُ الرياحَ بالمبشِّرات ، وبالإضافة إلى مسألة نزول الأمطار فهي تشير إلى حركة السفن بواسطة الهبوب المنظَّم للرياح أيضاً ، فجاء في النهاية : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ومن الممكن أن تكون عبارة (وَليُذيْقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ) إشارة إلى بقية فوائد الرياح ، كتلقيح الأشجار ، ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغيرها كما تمّ توضيحه في تفسير الميزان(١).
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢٠٩.