الإنسان عندما يولد لا يمتلك القدرة على النظر والمشاهدة إلى فترة من الزمن بعد ولادته ، ولأنّه معتاد على الظلام فهو يخاف من النور ويغمض عينيه لمدّة من الزمن ، في حين أنّ الاذن تسمع الأصوات من أول لحظة ، ومن الواضح أنّ القدرة العقلية والتمييز والشعور تبدأ بالعمل والنشاط لدى الإنسان بعد السمع والبصر ، خاصةً وأنّ «الفؤاد» كما يصرح أرباب اللغة بمعنى «العقل الناضج العميق» ولا يمثل مرحلة عادية من العقل ، وطبعاً فإنّ مثل هذا الشيء يظهر بعد ذلك.
فضلاً عن أنّ الآية المذكورة يمكن أن تكون إشارة إلى حقيقة أنّ الوصول إلى «الكليات العقلية» يأتي بعد العلم بـ «الجزئيات» عن طريق الحس ، وعلى كل حال ، فالآية تصرح أنّ الهدف من إسداء هذه النعم هو تحريك روح الشكر لدى البشر ، والذي يدعوهم بالنتيجة إلى محبّة الخالق ومعرفة الله وإطاعة أوامره.
وبالطبع فإنّ هذا لا يتناقض مع كون بعض العلوم الإنسانية علوماً فطرية لأنّ المعلومات الفطرية عند الولادة موجودة في طبيعة الإنسان على شكل الاستعداد والقابلية ، وليس لها طابع الفعلية ، ثم تثمر بعد ذلك.
* * *
الآية الثانية تشير إلى ثلاث نعم إلهيّة أخرى تتعلق جميعها بتسخير البحار وتعتبرها دافعاً نحو الاستفادة من فضل الله وشكره ، ومن هذه النعم :
أولاً : اللحوم التي تستخرج من البحر والمسماة ب «لَحْماً طَرِياً» ، وهو اللحم الذي لم يبذل الإنسان جهداً في تربيته أبداً ، وإنّما ربته يد القدرة الإلهيّة في أعماق البحار ووضعته في متناول أيدي الإنسان مجاناً ، فيعتبر نعمة كبيرة ، خاصة في عصر وزمان كانت تكثر فيه اللحوم الفاسدة وكان الناس يضطرون إلى الاحتفاظ باللحوم إلى فترة معينة عن طريق تمليحها أو شيها وتجفيفها تحت أشعة الشمس ، وكانت هذه اللحوم تسبب الكثير من الأمراض والتسمم للمسافرين ، في حين كانوا يستخدمون اللحوم الطازجه بكل سهولة في سفراتهم البحرية أو الساحلية.