ذلك الله الذي خلق الخلق ونظم القوى الروحية للإنسان إبتداءً من الحواس الظاهرية وهي مقدمة الإدراكات الروحية وانتهاءً بقوة التفكير ، الحافظة ، التخيل ، الإدراك ، الابتكار ، الإرادة والتصميم : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا).
وعلّمهُ طرق الهداية بعد تنظيم هذه القوى : (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا).
مع أنّ القوى الروحية للإنسان متنوعة وكثيرة جدّاً ، ولكن القرآن هنا وضع إصبعه من بين كل تلك القوى على مسألة «إلهام الفجور والتقوى» (إدراك الحسن والقبح) ، لأنّ هذه المسألة لها تأثير كبير جدّاً في مصير الإنسان وسعادته وشقائه.
قلنا مراراً : إنّ القَسَمَ يدلّ على الأهميّة والعظمة ، أهميّة المُقْسَمِ به والمُقَسَمِ له ، خاصة القَسَمُ القرآني لحمل الناس على المزيد من التفكّر في آيات «العظمة» الإلهيّة.
فضلاً عن أنّ «النفس» في هذه الآية ذكرت بصيغة النكرة ، وهي في مثل هذه الموارد من أجل التأكيد على أهمية الموضوع أو كثرته (١).
* * *
تشير الآية الثانية إلى السؤال الذى طرح من قبل جماعة من المشركين أو أهل الكتاب ، حيث وفدوا على الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله وسألوه عدة أسئلة كان أحدها عن الروح كما قال القرآن : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوْحِ).
ثم يأمر القرآن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : (قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى).
إنّ في هذا الجواب غير المستبين إشارة عميقة إلى مدى غموض ومجهولية هذه الظاهرة الكبيرة في عالم الوجود ، ومن أجل أن لا يَقول أحد لماذا لم تظهر واحدة من أسرار الروح؟ يضيف الله في آخر الآية : («وَما أُوتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلاً).
__________________
(١) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ـ ص ٤٤٢ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ـ ص ١٤٢ ، وقد احتمل بعض المفسرين أن تكون «النفس» في الآية أعلاه إشارة إلى الروح والجسم كليهما ، مع أنّ عبارة : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) تناسب الروح أكثر ، وكذلك الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ...).