هذا ليس على التحديد ، ولكن على التعظيم والإبلاغ ، وهو ما قال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] دل هذا على أن قوله : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ، أن ليس لذلك المدد حدّ ولا نهاية ؛ ولكن ذكر على التعظيم له والإبلاغ.
وفيه دلالة أن ليس لما خلق الله من العلوم نهاية ولا غاية يدركها الخلائق ، ولكن يؤخذ من كل جنس شيء ، فيعمل به.
وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم ، والمقصود منه العلم نفسه ، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم ؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا يبلغ ذلك البشر ، فدلّ أنّه كما ذكرنا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).
أمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، ثم يكون لذلك الأمر وإخباره إياهم أنه بشر مثلهم ، وجوه من المعنى :
أحدها : أنهم كانوا يسألونه آيات خارجة عن وسع البشر وطوقهم ، فأمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، لا يقدر على ما يسألونه من الآيات التي تخرج عن وسع البشر وطوقهم ، وليس لأحد التحكم على الله ، والتخير عليه في شيء ، إنما ذلك إلى الله إن شاء أنزل وإن شاء لم ينزل ، وأنا لا أملك شيئا من ذلك.
والثاني : ذكر هذا ليعرفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يحتمل وسع البشر أن يأتوا بمثلها ، أنه إنما أتى بذلك من عند الله لا من ذات نفسه ؛ إذ علموا أن وسع البشر لا يحتمل ذلك ، فلما أتاهم بذلك إنما أتى بها من عند الله وأنه رسول على ما يقول.
والثالث : أمره أن يقول لهم هذا : إنه بشر مثلهم ؛ لئلا يحملهم فرط حبّهم على أن يتخذوه إلها ربّا على ما اتخذ قوم عيسى عيسى إلها ربّا ؛ لفرط حبّهم إيّاه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) فإن كانت الآية في مشركي العرب ـ فهم ينكرون البعث ولا يرجونه لكنّه يكون ذكر لقاء ربه لهم ؛ لأنهم عرفوا في أنفسهم قديم إحسان الله إليهم [و] نعمه عليهم ، فأمروا أن يعملوا العمل الصالح ليستديموا بذلك الإحسان الذي كان من الله إليهم ، فيحملهم العمل على التوحيد بالله والإقرار بالبعث.
وإن كانت الآية في المؤمنين ، فيكون تأويله ؛ (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ، أي : ثواب ربه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) ليثاب عليه ؛ إذ الثواب إنما يكون للعمل الصالح دون غيره ، وفيه ما ذكرنا أن المقصود من العلم العمل الصالح ، والعلم مما ليس له نهاية فالأمر بطلب ما لا نهاية له ليس لنفسه ولكن للعمل به ، والله أعلم.