قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] فقالوا : إن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا دون الله فهم حصب جهنم إذن ، ونحو صرفهم قوله : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ، ٢] إلى حساب الجمّل ، وأمثال هذا ممّا حاجّوا رسول الله وجادلوه به ، فأخبر أنه ينسخ مجادلتهم ومحاجتهم رسوله ، وأنّه يحكم آياته ، حيث قال عند قولهم : إنّه يحل ذبح نفسه ويحرم ذبح الله ، فبيّن أنه بم حرم هذا؟ وبم حل الآخر؟ وهو قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ولكن كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه. فبيّن أنّه إنما حلّ هذا بذكر اسم الله عليه ، وحرم الآخر بترك ذكر اسم الله عليه.
وبين في قولهم : إن عيسى عبد دون الله والملائكة عبدوا دونه ، فهم ليسوا بحصب جهنم ، حيث استثنى أولئك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) الآية [الأنبياء : ١٠١] ، وأبطل مجادلتهم ومحاجتهم ، بصرفهم الآية إلى حساب الجمّل (١) بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ...) الآية [آل عمران : ٧] فهذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) نسخ ما ألقى الشيطان في قلوب أولئك الكفرة ما به جادلوه ، وأحكم آياته بما ذكرنا.
ثم إن ثبت ما ذكر ابن عباس وعامة من ذكرنا ، حيث قالوا : جرى على لسانه ذلك ، فجائز عندنا جرى الخطأ على لسان من عصم إذا عرف السامع منه مذهبه ودينه الذي يدين به ، عرف أن ما جري غلطا وخطأ ، نحو من يعتقد مذهبا وينتحل نحلة ، فجرى على لسانه خلاف ما يعرف منه الاعتقاد ، يعرف أنه جرى على لسانه غلطا ، فعلى ذلك الذي ذكره أهل التأويل ؛ إن ثبت ما ذكروا عنه أنه قال ذلك.
والأشبه فيه ما ذكرنا من إلقاء الشيطان في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجّونه ، كقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ...) الآية [الأنعام : ١٢١].
وقال القتبي : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي : تلا القرآن (٢)(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : في تلاوته. وكذلك قال أبو عوسجة ، وقال : أمانيّ مشدّدة جمع.
وقال غيرهما (٣) : إذا تمنى : إذا حدث ، وفي أمنيته : في حديثه.
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : الجمّل بتشديد الميم. صحاح.
(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٣٩) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٦٤) : ابن أبي حاتم.
(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٣٦) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٦٤) : ابن المنذر وابن أبي حاتم.