يحتمل وسعهم ، ولا بنيتهم ، ولا حمل عليهم أمورا شاقة خلاف ما عليه طباعهم وأمر معاشهم ، ولكن كلفهم بعبادات احتمل بها وسعهم وبنيتهم ، وحمل عليهم أمورا غير شاقة موافقة لما عليه أمر معاشهم وطباعهم ، وإن بعد ونأى عليهم.
والرابع : أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضا ، وإهلاك بعضهم بعضا ، على ما جعل ذلك لقوم ، حيث قالوا لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، ولو كلف ذلك كان حرجا في الدين ، وأمثال ذلك.
والخامس : جائز أن يكون قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : من شك وشبه ، أي : قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها لكم ، والله أعلم.
وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر : أن الزموا ملة إبراهيم.
والثاني : أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم (١).
وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) اختلف فيه :
قال عامة أهل التأويل (٢) : قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) أي : الله سماكم المسلمين.
وقال بعضهم (٣) : إبراهيم (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ، حيث قال : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ورسول الله محمد صلىاللهعليهوسلم كان من ولد إسماعيل ، وقد دعا له ولذريته بذلك.
وقوله : (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) : قال بعضهم (٤) : (مِنْ قَبْلُ) : في الكتب المتقدمة (وَفِي هذا) ، أي : في القرآن.
وقال بعضهم : (مِنْ قَبْلُ) : في الأمم الذين كانوا من قبل ؛ لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم ، (وَفِي هذا) : في قومه ، أي : كنتم متسمون بهذا الاسم في الأمم الخالية ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] أي : كنتم خير أمة في الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت ، والله أعلم.
وقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) قال قائلون : (عَلَيْكُمْ) بمعنى : لكم ، وذلك جائز في اللغة ، كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] أي : للنصب ؛ فعلى ذلك
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ١٥٩).
(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٩٩ ، ٢٥٤٠٠) وعن قتادة (٢٥٤٠١) ومجاهد (٢٥٤٠٢ ، ٢٥٤٠٣) والضحاك (٢٥٤٠٤).
(٣) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٧٢).
(٤) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤٠٦ ، ٢٥٤٠٧) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٧٢).