إن ذلك كله فاسد خيال ؛ أنه كان لا يحوم حول أصنامهم في حال صغره ، ولا رأوه دنا منها ؛ حتى لم يطمعوا ذلك منه ما دام صغيرا ؛ فكيف طمعوا ذلك الاستسلام لها بعد ما أوحي إليه وصار رسولا؟!
وكذلك ما ذكروا أنهم طلبوا منه أن يطرد بعض الذين اتبعوه ـ عنه ؛ ليكونوا هم أتباعه ؛ فهم أن يفعل ذلك فنزل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، لكن ذلك كله فاسد خيال ، لا يحتمل ما توهموا فيه ؛ لأنهم لم يعرفوه حق معرفته ، وإلا لو عرفوه حقيقة (١) المعرفة ما توهموا فيه شيئا من ذلك ، وبالله التوفيق والمعونة.
ثم قوله : (لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ).
قد ذكرنا أن عادتهم ذلك إلا أن الله عصمه عن ذلك.
ثم قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) :
فظاهر الآية يرد جميع ما قال أهل التأويل في هذه الآية ؛ لأنه يقول : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) : أخبر أنه قد ثبته ؛ فلم يركن ؛ لأنه أخبر أنه قد ثبته ؛ فلم يكد أن يركن إليهم. وقال : (شَيْئاً قَلِيلاً) : سمي ذلك : شيئا يسيرا ، ولو كان ما قال أولئك لكان شيئا كبيرا عظيما ، بل يبلغ الكفر ؛ دلّ أنه لم يكن ما ذكروا ، وقال : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، و (كاد) : هو حرف بمعنى : قارب ، أي : قارب أن يركن ؛ كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ) [مريم : ٩٠] ، أي : قارب أن يتفطرن ، وليس فيه أنه ركن إليهم ؛ فقولهم فاسد للوجوه التي ذكرنا [أحدها : أنه ذكر](٢) ، (شَيْئاً قَلِيلاً) : وما قالوا : كبير عظيم يخاف أن يبلغ الكفر.
والثاني : قال (كِدْتَ) ، وهو حرف تقارب.
والثالث : ذكر على الشرط : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ؛ فلم يركن لما ثبته ، وهو ما قال إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الانبياء : ٦٣] ، وما ذكرنا في قصّة يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] : ليس فيه أنه هم ، ولا فيه أنه ركن ؛ لأنه خرج على الشرط.
وقال الحسن في قوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، أي : هممت ، لكنه هم به هم خطر خطره إبليس. وكذلك قال في قصّة يوسف : همت به همّ عزم ، وهم بها هم خطر.
__________________
(١) في ب : حق.
(٢) سقط في أ.