لأنهم إن قالوا ببساطة الوجوب يرد عليهم إنه إذا ارتفع الوجوب بلا حرج ارتفع بتمامه ، لامتناع تبعض البسيط ، وحينئذ لا يبقى دليل على اصل المشروعية. وإن قالوا : إنه مركب من الطلب مع المنع من الترك يرد عليهم أما لزوم ارتفاع الجنس تبعا لارتفاع الفصل الذي تقوم به ، وحينئذ لا يبقى دليل على اصل المشروعية ، وأما بقاؤه بلا فصل وهو محال ، وأما بقاؤه في فصل جديد ، وهي دعوى بلا دليل ، لأن الآية المباركة تتكفل بالرفع ولا تتكفل بالوضع ، بل يمتنع تأدية كلا المضمونين بمثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ) ... ولا اقل من أنه لا ظهور لها في وضع شيء جديد.
قلت : هذا ايراد متين وجيه بحسب الصناعة ، والتحقيق في الجواب عنه أن الوجوب أمر بسيط ، وأنه أمر اعتباري منتزع عن البعث المؤكد الذي لا يرضى المولى بتركه. وهو معنى قولهم : إنه طلب الفعل مع المنع من الترك. وكذلك الاستحباب فإنه أمر بسيط منتزع عن الطلب غير المؤكد ، وهو معنى الرخصة في الترك. ودليل نفي الحرج يرفع مرتبة التأكد ، لأن الحرج يأتي من قبلها لا من قبل اصل الطلب بالضرورة ، وحينئذ لا يبقى إلّا الطلب ، وعنه تنتزع صفة الاستحباب ، أو اصل المشروعية التي لا تنفك في العبادات عن الاستحباب. والدليل على بساطة الاستحباب أن الاستحباب بعث ، ولا يعقل أن تكون الرخصة في الترك مقومة للبعث. لأن الترك أمر ينافي الطلب والبعث ، فكيف يكون مقوما لهما. ومنه يعلم أن عدم الرضا بالترك ايضا خارج عن حقيقة الوجوب لأنهما من سنخ واحد (١).
فرفع الوجوب معناه رفع صفة الالزام التي ينتزع عنها المنع من الترك ، وقضية تركيب الوجوب من جنس وفصل ، وتقوم الجنس بفصل جديد ، بعد ارتفاع فصله الذي وجد به ، قضية شعرية ، فإنه لا جنس ولا فصل ولا تقوم ، حتى بناء على التركيب لأن ذلك على تقدير تسليمه والاحاطة به ، انما هو في الماهيات التكوينية. ومتابعتنا للمنطقيين في ذلك متابعة وتقليد لمن قوله ليس
__________________
(١) وقد اوضحنا هذا في مباني الفقيه ، في الاوامر. وهو الكتاب الذي شرعنا في اعدام شطر من مسوداته.