يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في ردّهم : « كثير من أرباب الهوىٰ يقولون : إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلامٌ مُحدَث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربّما عزوا بعضه إلىٰ الرضيّ أبي الحسن أو غيره ، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام.
وأنا أُوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولا ، أو بعضه ..
والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة أسناد بعضه إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون ـ كلّهم أو جلّهم ـ والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلىٰ غرض في ذلك.
والثاني يدلّ علىٰ ما قلناه ; لأنّ مَن قد أنِس بالكلام والخطابة ، وشَدَا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف علىٰ كرّاس واحدٍ يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُد أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ..
ألا ترىٰ أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام نفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض !
ألا ترىٰ أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ; لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لمّا ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ علىٰ الذوق خاصّة !