فينفض ريشه وجناحيه على رأس الملك بما فيه من المسك وماء الورد ، فمكث الملك في ملكه ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمّى ولا لعاب ولا بصاق ولا مخاط ، فلمّا رأى ذلك من نفسه عتا وطغى وتجبّر واستعصى وادّعى الربوبيّة من دون الله تعالى ودعا إليه وجوه قومه ، فكلّ من أجابه أعطاه وحباه وكساه وخلع عليه ، ومن لم يجبه ويتابعه قتله ، فأجابوه بأجمعهم فأقاموا في ملكه زماناً يعبدونه من دون الله تعالى ، فبينما هو ذات يوم جالس في عيدٍ له على سريره والتاج على رأسه إذ أتى بعض بطارقته فأخبره أنّ عساكر الفرس قد غشيته يريدون قتله ، فاغتمّ لذلك غمّا شديداً حتى سقط التاج عن رأسه وسقط هو عن سريره ، فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين كانوا عن يمينه إلى ذلك وكان عاقلاً يقال له تمليخا ، فتفكّر وتذكّر في نفسه وقال : لو كان دقيانوس هذا إلهاً كما يزعم لما حزن ولما كان ينام ولما كان يبول ويتغوّط ، وليست هذه الأفعال من صفات الإله ، وكانت الفتية الستّة يكونون كلّ يوم عند واحد منهم ، وكان ذلك اليوم نوبة تمليخا فاجتمعوا عنده فأكلوا وشربوا ولم يأكل تمليخا ولم يشرب ، فقالوا : يا تمليخا ما لك لا تأكل ولا تشرب؟ فقال : يا إخواني قد وقع في قلبي شيء منعني عن الطعام والشراب والمنام. فقالوا : وما هو يا تمليخا؟ فقال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت : من رفعها سقفاً محفوظاً بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها؟ ومن أجرى فيها شمسها وقمرها؟ ومن زيّنها بالنجوم؟ ثمّ أطلت فكري في هذه الأرض ؛ من سطحها على ظهر اليمّ الزاخر؟ ومن حبسها وربطها بالجبال الرواسي لئلاّ تميد؟ ثمّ أطلت فكري في نفسي فقلت : من أخرجني جنيناً من بطن أُمّي؟ ومن غذّاني وربّاني؟ إنّ لهذا صانعاً ومدبّراً سوى دقيانوس الملك ، فانكبّت الفتية على رجليه يقبّلونهما وقالوا : يا تمليخا لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبك ، فأشر علينا. فقال : يا إخواني ما أجد لي ولكم حيلة إلاّ الهرب من هذا الجبّار إلى ملك السموات والأرض. فقالوا : الرأي ما رأيت ، فوثب تمليخا فابتاع تمراً بثلاثة دراهم وصرّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا ، فلمّا ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة