بابل الجديدة ، لا بد وأن تجري فيها الحوادث العظيمة كل لحظة لكثرة السكان وحشرهم في صعيد واحد وتزاحمهم على مركز تضيق مساكنه وطرقاته عن سكانه ، ومع ذلك هي أكثر من غيرها نظاما وحضارة وجمعا لمهمات المرافق النافعة للبشر.
بلغت باريز كما بلغت بابل ورومة وبغداد وقرطبة والقاهرة والقيروان منتهى الحضارة والرقي في العلوم والفنون الطبيعية والرياضية والحربية والصناعية والفلاحية والبحرية. وجنحت جانبا إلى اللهو وأنواع اللذات البدنية ولبس أنواع الحلل فأخذت من ذلك الحظ الوافر وواصلت الليل بالنهار ، وتقلبت في سائر الأطوار. ولكنها فاقت غيرها من العواصم التي تقدمتها أو عاصرتها في كل شيء على ما قصه علينا التاريخ وسمعناه من أفواه المسافرين في باريز من عدة ممالك ، فالاختراعات الجديدة محت بها ذكر من تقدمها وحسن الموقع الجغرافي العلمي الزراعي ونباهة الشعب جلت بهما في مضمار الفخر بين عواصم التاريخ الحاضر.
قال الشيخ ابن أبي الضياف شيخ المؤرخين التونسيين وقد زارها منذ سبعين عاما : باريز وما أدريك ما باريز ، وهي الغانية الحسناء الباسم ثغرها في وجوه القادمين ، مشحونة بأعاجيب الدنيا ، جامعة لأشتات المحاسن ينطق لسان عمرانها الزاخر. بقوله كم ترك الأول للآخر. ما شئت من علوم وصنائع وثروة وسياسة وظرف وحضارة وعدل ، تموج شوارعها بالساكن في مراكز الأمن ومضاجع العافية.
وقال الشيخ بيرم أول رؤساء الأوقاف الذي رحل إلى باريز أواخر القرن المنصرم أي منذ جيل : باريز وما أدريك ما باريز هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان.
وحق للفرنساويين التفاخر بها ومباهاة الأمم بمحاسنها وجمالها وغناها ومعارفها ومصانعها «أي حسن البلاد والعباد. وثروة العلم والمال والصنايع».
ولم يترك هاذان الكتابان التونسيان بهاته الجمل الجامعة مجالا لمستزيد في الألفاظ الراجعة لتلك المعاني. غير أن باريز كل ما توصف به فهو إقلال وكلما طال الشرح فهو إجمال. وغاية ما يقال في شأنها هو ما قاله قاضي العسكر بفاس عن مدينة القاهرة بمصر في القرن الثامن أن الذي يتخيله الإنسان إذا رآه وحده دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلّا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل