أكمل الأحوال كان العجز رائدها والقصور دون المراد غايتها. حيث جمال الصورة في الخيال ، لا يمكن أن تعبر عنه الألسن ولا تبرزه صناعة الأيدي بحال. فكلما رسم هذا المتيم البارع صورة وعرضها على الذات التي في خياله أو على ذات جوكوندا تبدى له الفرق بينا والبون ما بينهما بعيدا. فيعمد إلى إجهاد نفسه وإفراغ حواسه في إتقان المثال ، وتعويض بعض الألوان وتحوير الأشكال ، ولكن بلاجدوى مدة أربعة أعوام وهو ما بين التفكر في صورة الخيال ومجاز المثال. فيرجع إلى إجالة النظر في ذات جوكوندا فتتزاحم لديه صور ثلاث من صنع الله ، واختراع النفس ، وريشة الدهن. فيحار ويتضاءل عمله بين يدي صنع الخلاق المختار وهذا غاية ما سمع في إجهاد النفس وتوقيف أعمالها على خدمة المحبوب وصرف النظر والفكر عمن سواه.
وكأنه يتمثل بشعر إبراهيم بن علي الحصري القيرواني :
إني أحبك حبا ليس يبلغه همي |
|
ولا ينتهي فهمي إلى صفته |
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي |
|
بالعجز مني عن إدراك معرفته |
فلا عجب إذا قدرت النفوس منزلة هذا المصور المفتون الذي رق طبعه وخفت روحه وصفا فكره بالعلوم الرياضية ، حتى إذا فتح عينه وهي مرآة التصوير على ذات تلك الفتاة في بعض الأوقات وكان قلبه مغلقا عما سوى الولع بالعلوم انطبعت تلك الصورة جبرا في مرآة قلبه ، وكلما حاول غسلها بالتفكر فيما سواها إلّا وازدادت ارتساما فلم يجد بدا من أخذ مثال من مرآة القلب لتراها العيون الباصرة فتعذره.
والعذر لهم متى كانت نظرات الفتاة في الصورة غير مفهومة وتحملت معاني كثيرة ، وكانت ملامح تبسمها مبهمة وداعية للتفكر في المراد ، فلعل هذا المحب كلما خطرت بباله هيئة الإقبال ونظرات المفاجأة بالزيارة وبوارق البشرى من الثغر رسمها كما هي ، ثم تأتي بخياله صورة ضحك المداعبة وملامح هيئة المحادثة فتنشر أنامله ثوبا رقيقا من ذلك على الذات ، ثم تمر صورة تبسم إعجابها بإقدامه على محاكاة ذاتها بفعل يمينه فيرسم مسحة من ذلك على العيون وخاتم الثغر ، ثم تظهر هيئة الوجه في حالة الوداع