باريز ، وهو اختلاط خلق عظيم أمام الواجهة الغربية وعلى درجها. وغوغاء بدون انتظام ولا فهم كلام. يذكرون أن التجار بها يربحون أموالا طائلة تفوق أعمال الكيمياء التي لها أسرار فيما أخبروا ، ولكن لا يعرفها إلّا أربابها. وحقيقة هم شياطين ، فلا عجب إذا كان ذلك السر مكتوما على بقية المتفرجين ، وكلما أعدت النظر إلى ذلك السوق يوما بعد آخر وما به من الهرج والمرج وفي ضمنه أرباح عريضة لبعض أناس وخسارة لآخرين وقوم لا يفهمون ، والبعض عن تلك الأسرار غافلون إلّا ولاح لي تشبيهه بالدنيا وأبنائها ، وموقفهم فيها وتكالبهم عليها ، فلو نظر إلينا سكان الكواكب بمرآتهم المكبرة أو حلق بعضهم على رؤسنا أو أتانا زايرا متى وصلت إليهم طياراتنا لرأونا على هذا البساط الترابي كجماعة البورصة ، وأخذهم العجب من شديد عناء البشر ومصارعة الدهر لسكان كوكب الأرض ومنافسة بعضهم لبعض.
وكنت أقرأ على سوق البورصة عند منصرفي نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)
٦ ـ أنواع العلوم والأمن ومنازل الراحة للغرباء في باريز أمر عرفته لها كل القارات ، فيقصدونها لاقتباس العلوم العالية والفنون المستظرفة ، فيلذ لهم المقام في مواطن الأمن ومنازل النعيم والراحة. وقد تكلمنا في فصل الحسبة والبوليس على اعتناء إدارة المحافظة بالغرباء وكف يد العادية عنهم ، يجد المسافرون في منازل السكنى بجوار العائلات أو بالأوتيلات ساير المرافق بأسعار تناسب كل نفس على حسب وسعها. فالزاير لباريز يمكنه العيش بالإنفاق فيها من سعته أو على حسب ما آتاه الله ، فأسعار المعاش ولوازم السكنى ليست بغالية.
وابن خلدون يقول إذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت ، وما في معناه ، وغلت أسعار الكمالي ، وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس. وأكثر أكل السكان في المطابخ القائمة في كافة الطرقات ولا يتحرجون من استدعاء ضيوفهم لها حيث ما يعدونه بمنازلهم لا يكون أكثر مما يوجد بالمطابخ التي تملأ قائماتها أسماء المآكل ، حتى يضل الغريب في قاموس تلك الأعلام التي كأنها نحتت من لغة الصين ، ولا يهتدي لجيدها من رديئها ما لم يكن حافظا