وقد دلت الآية بمنطوقها ان القصاص مشروع في الصور الثلاث الأولى ، وهي محل وفاق بين الفقهاء ، لأن صريح القرآن لا خلاف فيه .. والآية لم تنف أو تثبت القصاص في الصور الأخرى لا منطوقا ولا مفهوما ، وعليه فلا بد من الرجوع الى دليل آخر من سنة أو اجماع.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال مالك والشافعي وابن حنبل : ان الحر لا يقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة : بل يقتل الحر بعبد غيره ، ولا يقتل بعبده. واتفق الأربعة على ان الرجل يقتل بالمرأة ، وبالعكس. وقال الإمامية : إذا قتل الحر عبدا لا يقتل به ، بل يضرب ضربا شديدا ، ويغرّم دية العبد ، وإذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية ان رضيت هي ، وبين أن يقتلها ، فان اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا .. وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية ان رضي القاتل ، وبين ان يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل ٥٠٠ دينار.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). الضميران في له وأخيه يعودان الى القاتل ، أما لفظة شيء فإنها تدل على ان ولي الدم إذا عفا عن شيء يتعلق بالقاتل ، كالعفو عن قتله ، والرضا بأخذ الدية فينبغي ان يقابل القاتل هذا العفو بالمعروف ، وقيل : ان لفظة شيء تشعر بأن الورثة إذا تعددوا ، وعفا واحد منهم عن القاتل سقط القصاص ، حتى ولو أصر بقية ورثة المقتول على القتل ، ومهما يكن ، فان الله سبحانه جعل لولي الدم حق القصاص من قاتل العمد ، وليس له أن يلزم القاتل بالدية إذا قدم نفسه للقتل ، ولا للقاتل أن يلزم ولي المقتول بأخذ الدية إذا أصر على القتل قصاصا .. ولهما معا أن يتفقا ويصطلحا على مبلغ من المال بمقدار الدية ، أو أقل ، أو أكثر عوضا عن القصاص ، فإذا تم مثل هذا الاتفاق أصبح لازما ، ولا يجوز العدول عنه ، وعلى ولي المقتول أن يطالب القاتل ببدل الصلح بالمعروف ، فلا يشدد ويضيق في الطلب ، أو يطلب أكثر من حقه ، وعلى القاتل أن يؤدي المال بإحسان ، وبلا مطل وبخس وأذى.
(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ). أي ان الحكمة من تشريع الدية بدلا عن القصاص هي التخفيف عنكم ، والرحمة بكم. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ