لقد اختلف العلماء في نوعية هذا الطريق ، وقرره كل بما رآه صوابا .. فمنهم من اعتمد على الدليل الكوني ، وأورده على هذه الصورة : ان الطبيعة وحوادثها المتكررة المتجددة تتطلب وجود علة لها ، ولا يصح أن تكون العلة هي الطبيعة نفسها ، وإلا لزم أن يكون الشيء علة ومعلولا في آن واحد ، وهذا هو الدور الباطل الذي أوضحناه في الفقرة السابقة (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ٤ من هذه السورة ، وان كانت العلة خارجة عن الطبيعة نقلنا اليها الكلام وسألنا : هل هي نتيجة لعلة سابقة ، أو انها وجدت لذاتها من غير علة ، وعلى الأول يأتي الكلام والسؤال عن كل علة سابقة ، وهكذا دواليك .. وهذا هو التسلسل المحال ، فتعين الثاني ، أي وجود علة بذاتها ، واليها تنتهي جميع العلل ، ولا تنتهي هي الى غيرها ، وهي كلمة الله ، وقوله للشيء كن فيكون.
ـ ملحوظة ـ هذا الدليل يقوم على التسليم بنظرية العلية ، وهي ان كل أثر يستلزم مؤثرا ، وكل معلول لا بد له من علة ، تماما كالعلم يستدعي وجود العالم ، والكتابة وجود الكاتب (١).
ولكي تتضح لديك فكرة التسلسل وبطلانها ، ووجوب الانتهاء الى علة لا علة لها نضرب اليك مثلا من هذه التصاميم التي يضعها المهندسون للطائرات والسيارات ، وغيرها من الآلات والبنايات فإنها جميعا لا بد أن تنتهي الى المخترع الأول الذي وضع التصميم من تلقائه ، يأخذ الغير منه ، ولم يأخذه هو من أحد ، ولو افترض انه لا مخترع أول للتصميم لزم أن لا يوجد اختراع ولا شيء يمت الى التصميم على الإطلاق.
وعلى هذا فليس لأحد أن يقول ويسأل : ممن أخذ المخترع الأول هذا التصميم ، لأن معنى مخترع انه لم يتلق من الغير ، وهذه الحقيقة تدل على صحتها بنفسها ، تماما كما تدل الشمس على ضوئها .. وهكذا الحال بالنسبة الى الخالق
__________________
(١) إن الفيلسوف الانكليزي هيوم ينكر مبدأ العلية ، ويقول : لا دليل على ان وجود شيء يستلزم وجود شيء آخر ، وإنما العادة جرت أن يحدثا معا دون أن يكون بينهما تلازم قهري .. وليس لدينا شيء نرد به هذا القول سوى ان الغاء مبدأ العلية الغاء لبديهة العقل عند جميع الناس ، فما من أحد يتصور وجودا من غير سبب موجب .. هذا ، إلى ان تكرار وجود الحادثين معا ، وعدم تخلف أحدهما عن الآخر ، ولو بحسب العادة يجعل للعادة من القوة ما للتجربة التي هي الطريق الوحيد للمعرفة عند التجربيين.