والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم ، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو : كيف أولئك ، أو كيف المشهد ، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة ، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلّا يزيده حال ضدّه وضوحا ، فالناجي يزداد سرورا بمشاهدة حال ضدّه ، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه ، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه ، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه متعلّقه بعلى أو اللام : ليعمّ الأمرين. والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب ، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) في سورة آل عمران [٢٥].
و (إِذا) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة (جِئْنا) أي زمان إتياننا بشهيد. ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثل آية سورة النحل [٨٩] (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزّمان بإضافته إلى تلك الجملة ، والظرف معمول ل (كيف) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب ، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمحان :
وقبل غد يا لهف قلبي من غد |
|
إذا راح أصحابي ولست برائح |
والمجروران في قوله : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) وقوله : (بِشَهِيدٍ) يتعلّقان ب (جئنا). وقد تقدّم الكلام مختصرا على نظيره في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٢٥].
وشهيد كلّ أمّة هو رسولها ، بقرينة قوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).
و (هؤُلاءِ) إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلىاللهعليهوسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة ، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلته ، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة (هؤُلاءِ) مرادا بها المشركون ، وهذا معنى ألهمنا إليه ، استقريناه فكان مطابقا. ويجوز أن تكون الإشارة إلىالَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)[النساء : ٣٧] وهم المشركون والمنافقون ، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم ، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين. ومن أضعف الاحتمالات أن يكون (هؤُلاءِ) إشارة إلى الشهداء ، الدالّ عليهم قوله : (كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) وأن ورد في «الصحيح» حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه