فعل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) في سورة آل عمران [٢٣].
وجملة (يَشْتَرُونَ) حالية فهي قيد لجملة (أَلَمْ تَرَ) ، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهد المرئيّ ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المرئيّ.
والنصيب تقدّم عند قوله : و (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] في هذه السورة ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلّته في نفوس السامعين ، وإلّا لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) [النساء : ١٤١] ، أي نصيب من الفتح أو من النصر.
والمراد بالكتاب التوراة ، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من النصارى.
والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبايعين ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبر أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلّا فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختيار ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في سورة البقرة [١٦]. وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى علمهم عليهم.
وقوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩]. فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلّوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدّم آنفا قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧].
وجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) معترضة ، وهي تعريض ؛ فإنّ إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد.