أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) [النساء : ٤٤] ؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ). وتقدّم بيان تركيب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) آنفا في سورة آل عمران [٢٣].
والجبت : كلمة معرّبة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ؛ لأنّ مادة : ج ـ ب ـ ت مهملة في العربية ، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة. وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم :
يا لعن الله بني السعلات ، وعمرو بن يربوع شرار النّات ، ليسوا أعفّاء ولا أكيات ، أي شرار الناس ولا بأكياس. وكما قالوا : الجتّ بمعنى الجسّ.
والطاغوت : الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس. وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال : للصّنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طفل وفلك. ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب. ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء : ٦٠] فأفرده ، وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] ، وقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) [البقرة : ٢٥٧] إلخ. وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع ، وأصله مصدر بوزن فعلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبروت ، فأصله طغووت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فلعوت ، والقصد من هذا القلب تأتّى إبدال الواو ألفا بتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرءام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفا بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : «لا تحلفوا بالطواغيت».
وفي كلام ابن المسيّب في «صحيح البخاري» : البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت.
وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنّهم يعظّمونه لأجل