والأداء حينئذ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ (تؤدّوا).
وقوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) عطف (أَنْ تَحْكُمُوا) على (أَنْ تُؤَدُّوا) وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله : (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)[الشعراء : ١٢٩ ، ١٣].
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل ، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرّح بذلك ، وهو مشتقّ من الحكم ـ بفتح الحاء ـ وهو الردع عن فعل ما لا ينبغي ، ومنه سميّت حكمة اللّجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحكم فلانا ، أي أمسكه.
والعدل : ضدّ الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عدل كذا بكذا ، أي سوّاه به ووازنه عدلا (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه ، إطلاقا ناشئا عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال لبيد :
ومقسم يعطي العشيرة حقّها |
|
ومغذمر لحقوقها هضّامها (١) |
فأطلق لفظ العدل ـ الذي هو التسوية ـ على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة. ومظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا : (إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع.
والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة : في تعيين الأشياء لمستحقّها ، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ،
__________________
(١) المغذمر ذو الغذمرة وهي ظهور الغضب في القول ، والهضام صاحب الهضم وهو الكسر والظلم.