وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق.
فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه ، أي بإعطائه أكثر من حقّه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقّه ، وكلا الطرفين يسمّى جورا ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ـ إلى قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٥ ، ٦] ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات. وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدّ المعتدي عن
اعتدائه ، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى : (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٩]. وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشرّع لهم ، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الأحوال ، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية.
ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعة الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة ، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة ، أو بلد خاصّ ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظا للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] أي العدل. فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها.
وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس ، وأطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم ،